حُجَّتُ الله نِيـكُـوئـي:: نقاش موسّع لحادثة الغدير ودلالتها
في كتابه (نظريـــة الإمـامـة فـي ميزان النقــد) ناقش الباحث دلالة حديث الغدير على النص وإمامة علي(ع) بشكل موسّع جداً، نقتبس منه بعض المواضع لأهميتها:
<< لماذا لم يصرّح؟ >>
--- إذا كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد في ذلك اليوم أن يقدّم عليّاً (ع) بوصفه إماماً وخليفةً من بعده فلماذا لم يبيِّن هذا الأمر بصراحة تامة كي لا يتركَ مجالاً للاختلاف؟ لماذا لم يقل بصراحة إن الله أمرني أن أعلن لكم عليّاً إماماً وخليفة عليكم من بعدي، وهاأنذا أعلنه رسمياً وأَمَامَكم جميعاً إماماً وخليفةً عليكم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا...
<< لماذا لم يحتج به الإمام؟ >>
--- إذا كان ادعاء الشيعة بشأن معنى حديث غدير خم ومفاده صحيحاً فلماذا لم يستدل عليٌّ (ع) به فيما بعد أبداً لإثبات حقه الإلهي في إمامة المسلمين ورئاستهم؟ صحيح أن علياً استدل بهذا الحديث في بعض الموارد لإثبات فضيلته، ولكنه لم يقل قط إن الله تعالى وبواسطة رسوله نصَبني إماماً معصوماً وخليفةً بلا فصل بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة، بل ذكر حديث غدير خم بوصفه إحدى مناقبه فحسب. لا توجد لدينا أي رواية موثوقة عن عليٍّ (ع) تبيِّنُ أنه قال إني خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحق وإن الله تعالى نصبني في هذا المقام وأبلغكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عندما أعلن إمامتي يوم غدير خم. لا شك أن علياً كان يعتبر نفسه أحق من الآخرين بأمر خلافة المسلمين واستلام زمام أمورهم لكنه لم يعتبر في أي وقت من الأوقات أن دليل أحقيته هذا هو النَصْب الإلهي له في هذا المقام...
<< ألست أولى بكم من أنفسكم >>
يدَّعي علماء الشيعة أن مقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلمة «مولى» في جملة «مَنْ كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه» هو «الأولى بالتصرُّف» والذي يمكن أن نسـتنبط منه مفهوم الإمامة. ودليل الشيعة الوحيد هو أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل بيانه لتلك الجملة طرح موضوع أولويته بالمؤمنين من أنفسهم وأخذ اعتراف الناس بذلك ثم قال: «مَنْ كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه»، وبالتالي فمقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من «مولى» هو «الأولى».
ولكن هذا الدليل ليس دليلاً قويّاً لأنه يمكننا أن نقول إن السؤال الذي طرحه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الناس في صدر الحديث كان الهدف منه أن يأخذ منهم اعترافهم بأنه أولى بهم من أنفسهم وذلك للتأكيد على ضرورة طاعتهم لما يريد قوله بعد ذلك. بعبارة أخرى كان هدف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك السؤال أن يقول للناس: إذا كنتم تقبلون بي نبياً وكنتم تعتبرونني أولى بكم من أنفسكم فعلاً، فيجب عليكم أن تحبوا عليّاً وتوالوه كما تحبوني وتوالوني.
وذلك مثل الأب الذي يقول لابنه أحياناً عندما يريد نصحه ألستُ أباك؟ ثم عندما يجيبه ابنه بالإيجاب يقول له الأب: إذا كنت فعلاً تعتبرني أباك وتقبل بأنني أدرى بمصلحتك منك وأنني أحبك أكثر مما تحب نفسك فقم مثلاً بمصادقة فلان ومحبته وكن معه لطيفاً كريماً ولا تعاديه.
ولكي تتضح النقطة بشكل أفضل نسأل: إذا ذَكَر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، بعد تلك المقدمة، نصيحةً مختلفةً هل كان ذلك يخلق تناقضاً ومحظوراً عقلياً؟ هل كان بإمكاننا أن ندَّعي أن صدر كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذيله لا يتفقان مع بعضهما؟ إطلاقاً بالطبع! لأن معنى إطلاق وعموم جملة «ألست أولى بكم من أنفسكم» يشمل تماماً أيُّ شيء يريده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أمته ولا يمكن جعله قرينة على المعنى المقصود من«مولى». بعبارة أوضح، كل وصية وأمر كان سيقوله النبيّ بعد تلك المقدمة كان سيشملها هذا الحكم ذاته.
<< القرائن الدالة على معنى كلمة "مولى" >>
ثم إن لكلمة «مولى» في العربية معان متنوعة ولا يمكن معرفة المعنى المقصود الذي يريده قائلها منها إلا بقرينة دالَّة. ولكن أحد أكثر معاني الكلمة رواجاً واستخداماً هو معنى «الصديق المحبّ» و«النصير». ونحن نقول إن القرائن التالية تبين أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراد فعلاً هذا المعنى بالذات من جملة «مَن كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه»:
(1) إن خلفيّة وقوع حادثة غدير خم والسبب المباشر والأساسي لورود الحديث الذي صدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيها هو قضية المشادة والمشاجرة التي وقعت بين عدد من رجال قافلة اليمن (مثل خالد بن الوليد وبريدة الأسلميّ) وبين عليٍّ (ع)، ومعاداة أولئك الأشخاص لعليٍّ وإساءتهم الكلام بحقِّه على نحو كان من الممكن لذلك الطعن والإساءة أن تشوِّه شخصية عليٍّ (ع) بين الناس. وقد أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إزالة تلك العداوة والبغضاء من الصدور وأن يعرّف في الوقت ذاته بشخصية عليٍّ (ع) البارزة مرَّةً ثانيةً ويزيل سوء الظن الذي ربما تسـرّب إلى بعض القلوب تجاهه ويذكِّرهم بوجوب محبته وموالاته، كي يمنع بهذا فتناً قد تقع في المستقبل.
(2) إذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يطرح أمر «أولوية» عليٍّ (ع) لما استخدم كلمة «مولى» بدلاً من كلمة «أولى»، لأن «أولى» على وزن أفعل و«مولى» على وزن «مفعل» والعرب لا تستخدم «مفعل» في مكان «أفعل». إذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يطرح أولوية عليٍّ (ع) لكان باستطاعته أن يقول: «من كنت أولى به من نفسه فهذا عليٌّ أولى به من نفسه»؟ ألم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعلم - إذا افترضنا أنه قصد بيان «أولوية» و«إمامة» عليٍّ أنه باستخدامه لكلمة «مولى» (التي معناها العُرفي في اللغة العربية هو المحب والنصير) بدلاً من كلمة «أولى» قد يوقع كثيراً من الناس في الخطأ والاشتباه؟.
(3) إن دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد جملة «من كنت مولاه....» أقوى قرينة لإثبات هذه الحقيقة وهي أن كلمة «مولى» في الجملة المذكورة استُخدمت في المعنى العرفي الرائج (أي المحب والنصير). كان دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد تلك الجملة: «اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».
يظهر هذا الدعاء بوضوح أن مقصود النبيّ من «مولى» هو «المحب والنصير» وأن ليس للجملة مورد البحث (التي قيلت قبله) من مفهوم سوى الوصية بمحبة عليٍّ ونصرته وموالاته. إذا كان مقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من «مولى» هو «أولى» لوجب أن يدعو النبيُّ بعد تلك الجملة بالدعاء التالي: «اللهم وال من آمن بأولويته وعاد من لم يؤمن بأولويته».
بعبارة أخرى إذا كان مقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من جملة «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» نَصْب عليٍّ إماماً وخليفة بعده لقال في دعائه: «اللهم وال من سمع له وأطاعه وعاد من لم يسمع له ولم يطعه».
(4) كما ذكرنا من قبل، لقد استنبط صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الكبار من جملة «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» وجوب محبة عليٍّ وموالاته وهذا بحد ذاته قرينة محكمة وقاطعة على أن قصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من استخدام كلمة «مولى» هو معنى «المحب والنصير».
(5) مرَّةً ثانيةً نؤكِّد أنه إذا كان قصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلمة «مولى» معنى «الأولى بالتصرُّف» وأنه أراد بتلك الكلمة إعلان إمامة عليٍّ (ع)، فإنه كان يعلم أكثر من أي شخص آخر أنه لا يوجد هنا في (غدير خم) سوى عدد محدود من صحابته وأنصاره وأن مكان إعلان مثل هذا الأمر المهم والمصيري يجب أن يكون قبل عدة أيام خلال مناسك الحج أمام ما يزيد على مئة ألف مسلم قدموا من جميع أنحاء الجزيرة العربية، وليس الآن (في غدير خم) بعد أن تفرق أكثر المسلمين وزعماء عشائر العرب ورؤساء بلاد المسلمين وانطلق كل منهم نحو دياره وبلاده.
(6) إذا كان قصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حديث غدير خم نَصْب عليٍّ (ع) إماماً وخليفةً بعده لقام بعد حادثة غدير خم، بالإشارة مجدَّداً إلى ذلك الأمر في المدينة المنورة، إن لم يكن عدة مرات فعلى الأقل مرَّةً واحدةً، ليؤكِّد عليه. هذا في حين أننا نرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم حتى في آخر كلماته التي قالها قبل أسبوع من رحيله لم يُشِـر أدنى إشارة إلى هذا الموضوع، مما يبيّن أن قصد النبيّ من جملة «من كنتُ مولاه...» لم يكن طرح قضية «أولوية» عليٍّ (ع) ونَصْبه إماماً وخليفة بعده.