مقدمة:
ركزت معظم دراسات الإسلام والمسلمين في أوروبا على الجماعات السنية مثل جماعة الإخوان المسلمين، ولم يحظ موضوع الإسلام الشيعي في أوروبا باهتمام العديد من الدارسين والباحثين. لاسيما أن هذه الجماعات الشيعية لها تأثيرها في السياسات الأوروبية تجاه الشرق الأوسط لأنها مكون أساسي في المجتمعات الأوروبية، ومن المرجح أن تكون الاتصالات العرقية قد ساعدت على توطيد العلاقات بينها عبر الهياكل والتنظيمات الشيعية،سيما “الرابطة العالمية لأهل البيت“، حيث يمكن لهذه العلاقات أن توطد العلاقة بين التنظيمات الشيعية البارزة لخدمة المصالح الإيرانية، وخاصة أن الحياة الدينية الشيعية تقوم على المأسسة (استخدام المسجد، المؤسسة الخيرية، المجلات ووسائل الاعلام، وما إلى ذلك).
ولذلك فإن التساؤل الرئيسي لهذه الدراسة يدور حول:
إلى أي مدى يمثل الشيعة أداة للتغلغل الإيراني في أوروبا؟ وماهي السياسة التي تتبعها إيران للتغلغل في المجتمع الأوروبي؟ وما هي أهدافها من وراء هذه السياسة؟ وماهي أهم الآثار الاجتماعية والسياسية للتمدد الشيعي في المجتمع الأوروبي؟!
ومن ثم فالغرض الأساسي لهذه الدراسة هو دراسة تأثير الوجود الشيعي في المجتمع الأوروبي، لاسيما في المملكة المتحدة، وهولندا وألمانيا والنرويج والسويد واسبانيا وبلجيكا ودول أخرى، كما تهدف هذه الدراسة إلى التعرف على طبيعة العلاقات السنية - الشيعية في الدول الأوروبية، وتحليل العوامل الدينية والسياسية التي تؤدي إلى صعود الطائفية.
وتقوم فرضية هذه الدراسة على أن الصراعات السياسية والمذهبية في الشرق الأوسط لها آثار مباشرة على الانقسام بين السنة والشيعة في أوروبا الغربية، مما يمهد لاستنساخ الطائفية بشكل يهدد استقرار المجتمع الأوروبي ويقوض التماسك الاجتماعي المطلوب. كما أن التشيع في أوروبا له تأثير كبير على الجالية السنية العربية ومن ثم على العلاقة بين الجماعات السنية والشيعية في العالم العربي.
وتكمن أهمية هذه الدراسة في قلة الدراسات العربية التي ركزت على دراسة الإسلام الشيعي في أوروبا، حيث ركزت معظم الدراسات على دراسة الإسلام السني، برغم التاريخ الطويل للوجود الشيعي في العديد من الدول الأوروبية، ومن ثم فهذه الدرسة تهتم بدارسة التشيع والتغلغل الإيراني في المجتمعات الأوروبية وأثره على هذه المجتمعات وذلك من خلال مبحثين رئيسيين:
المبحث الأول: التشيع والتغلغل الإيراني في المجتمعات الأوروبية
المبحث الثاني: أثر التشيع والتغلغل الإيراني على الاندماج الوطني في المجتمع الأوروبي
المبحث الأول
التشيع والتغلغل الإيراني في المجتمعات الأوروبية
يهتم هذا المبحث بدراسة التشيع كأحد أدوات السياسة الإيرانية للتغلغل في المجتمعات الأوروبية، حيث تحاول إيران تحقيق طموحاتها السياسية في السياق الأوروبي باستخدام الإسلام الشيعي كأداة سياسية لتجنيد الشيعة المحليين (الأوروبيين) كجماعات ضغط سياسية لدعم موقفها في الصراعات السياسية في منطقة الشرق الأوسط (سيما في سوريا والعراق والخليج) من خلال الاحتجاج بشعارات طائفية وتقديم أنفسهم كحلفاء ضد الإرهاب بسبب هويتهم الشيعية كأقلية دينية ومذهبية.
أولاً: آليات التغلغل الإيراني في المجتمع الأوروبي:
أخذت إيران على عاتقها تصدير الثورة الإسلامية (أيديولوجية الإسلام الشيعي المنتصر) بعد عام 1979، من خلال نشر التشيع بين المهاجرين السنة في أوروبا، واعتبرت التشيع أداة لتكريس نفوذها السياسي (التوسع الشيعي) لأنه يضمن الطاعة السياسية من جانب الموالين لها في أوروبا. فعملت إيران على إنشاء المساجد والمدارس والمنظمات الخيرية والشيعية على نطاق واسع، وبدأت في إنشاء المراكز الثقافية بعد وفاة الخميني كسياسة جديدة. واهتمت إيران بالحفاظ على هوية شيعية متميزة إلى أبعد حدود جغرافية وسياسية ممكنة، وأنشأت لهذا الرابطة العالمية لأهل البيت في لندن، ومنظمات أخرى، مثل مؤسسة الإمام الخوئي، وهي منظمة نشطة بشكل خاص في الولايات المتحدة وبريطانيا، وأصبحت هذه المؤسسات مراكز للتجنيد والدعم السياسي لإيران والتنظيمات والجماعات الموالية لها في العالمين العربي والإسلامي، بالإضافة إلى توظيف وسائل التواصل والإعلام والقنوات التلفزيونية اللبنانية والإيرانية، والإنترنت، لنشر التشيع، ونشر الرسالة السياسية لطهران[1].
وتعتبر الرابطة العالمية لأهل البيت المظلة التي تعمل على الحفاظ على العلاقات بين المنظمات الشيعية البارزة في جميع أنحاء أوروبا، وثمة عوامل أخرى تشمل: الطابع الشيعي العابر للحدود، والطابع العاطفي للتدين الشيعي، فكل هذه العوامل توفر أرضا خصبة لاستراتيجية التسلل الإيراني في أوروبا، وتستخدم هذه الاستراتيجية المجتمعات الشيعية المقيمة في أي ركن من أركان العالم لتحقيق الطموحات السياسية الإيرانية، وتوظيف الخطاب الشيعي العاطفي من خلال الدعوة إلى العمل عبر الموقع الإلكتروني لرابطة أهل البيت، وقد حذر مسؤولون في الاستخبارات الغربية عام 2012 من تصريح المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي بأن المصالح الوطنية الإيرانية قد هددت من قبل عقوبات الأمم المتحدة التي فرضت بسبب برنامج إيران النووي، وأن إيران لن تقف موقفاً سلبياً، ويجب أن تثبت للغرب أن هناك “خطوط حمراء”… وينبغي أن ترسل تحذيراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، بريطانيا، تركيا، السعودية وقطر وغيرهم، بأنهم لا يستطيعون الإفلات من العقاب في سوريا وفي أماكن أخرى في المنطقة [2].
النوع الأول من التشيع يحدث من خلال قناة أكثر تنظيماً، من خلال تأسيس المساجد والمعاهد وتنظيم الدورات، والسفر إلى إيران. وتضطلع الرابطة العالمية لأهل البيت بدور هام في أوروبا، لاسيما بناء المساجد والمدارس والمراكز الثقافية والجمعيات الخيرية، وقد قامت بافتتاح العديد من المساجد، وأنشأت نحو سبعين مركزاً شيعياً في جميع أنحاء العالم، وبالطبع فإن لهذه المساجد والمراكز دور رئيسي وهام في نشر التشيع في المجتمعات الأوروبية، والنوع الثاني من التشيع هو توظيف وسائل الاتصال والإعلام في نشر التشيع، حيث تحافظ الأجيال الشيعية المولودة في أوروبا على التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة مع المجتمع الشيعي الأوروبي، ففي السنوات السابقة، كانت إيران تعتمد على الوكالاء ورجال الدين الشيعة، وباتت قنوات الاتصال الحديثة، مثل الإنترنت، تستخدم من قبل رجال الدين الشيعة استخداماً مكثفاً في جهودها للبقاء على اتصال مع أتباعهم، من خلال توزيع الكتب الدينية حول التشيع، ونشر الملفات الصوتية، والفتاوى الشيعية[3]. ونشر أيدلوجية إيران في سياق أوسع لمنطقة الشرق الأوسط لاسيما عبر القنوات الفضائية العديدة، مثل قناة المنار اللبنانية وقناة (العالم) الإيرانية، واللافت قدرة رجال الدين الشيعة ومؤسساتهم على استغلال إمكانيات الإنترنت، وتقديم مجموعة كاملة من الأدب الشيعي [4].
ويحرص الشيعة في أوروبا على التغلغل في المجتمعات السنية من خلال تزويج فتياتهم لمسلمين سنة، فضلاً عن قيام بعض أفراد الشيعة ممن لهم علاقات بالسفارة الإيرانية في البلدان الأوروبية، أو لهم علاقات بالحرس الثوري الإيراني، بتبني أطفال وأيتام لتنشئتهم على التشيع، كما أن إيران لا تعتمد فقط على الجالية الإيرانية في نشر التشيع، لأنه من الصعوبة بمكان لممثليات إيران الاتكال على هذه الأقلية، نظراً لحجم الحملات الدعائية والإعلامية التي يديرها النظام الإيراني في الخارج، لذا تلجأ إيران عادة لجاليات شيعية عربية وباكستانية وأفغانية وهندية لتحقيق هذه الغاية.
ثانياً: التشيع في أوروبا:
يعود الوجود الشيعي في أوروبا إلى القرن التاسع عشر عندما قدمت مجموعة من المهاجرين الشيعة من جنوب آسيا إلى أوروبا للدراسة، وكان للمهاجرين دور في تأسيس المؤسسات الشيعية البارزة في القرن العشرين مثل مسجد الإمام علي في هامبورج (Imam Ali Mosque in Hamburg)، الذي أنشئ في عام 1953، من قبل السلطات بالتشاورمع المرجع الديني التقليد بورجريدي (marja‘ al-taqlid Borujerdi)، بالإضافة إلى منظمة الشباب العربي الإسلامي في بريطانيا العظمى وأيرلندا والعالم (The Muslim Arab Youth Organization for Great Britain and Ireland)، وأنشأ المهاجرون في عام 1967 الرابطة الإسلامية (Islamic League) من قبل المهاجر، باقر الصدر(marja‘s, Bāqer al-Sadr)، وغولبايغاني (Golpāyegāni)، ومؤسسة الخوجة العالمية للشيعة الاثنى عشرية (KSIMC) The World Federation of Khoja Shia Ithna-Asheri Muslim Communities، التي تأسست في لندن في عام 1976، وتفيد التقارير أن خريجي الحوزات العلمية في إيران قد باشروا التشيع في أوروبا منذ سبعينيات القرن العشرين، وزادت وتيرة التشيع في ثمانينات ذات القرن، مع تدفق موجات الشيعة في أوروبا، والتي استمرت في تأسيس المؤسسات الشيعية الكبرى في التسعينيات من ذات القرن، وقد لوحظ ذلك في ألمانيا، وكان هناك عودة واضحة للأنشطة الشيعية بها منذ سقوط صدام حسين في عام 2003 [5].
وكانت بريطانيا منذ البداية وجهة رئيسية للهجرة الشيعية إلى أوروبا، ويعتقد أن معظم الشيعة وصلوا إليها منذ أوائل سبعينات القرن العشرين، بعد طرد الشيعة من أوغندا، يليهم المهاجرون العراقيون والإيرانيون والأفغان في أواخر السبعينيات. وسبقتهم موجة من جنوب آسيا، ولا سيما الهجرة الباكستانية في أوائل الستينيات من القرن العشرين. وقد أنشئت العديد من التتظيمات الشيعية في شكل مجالس أو جماعات باكستانية، مثل مؤسسة الدار - الجعفرية (Idara-e- Jaaferiya)، مؤسسة الخوئي (The Khoei foundation)، ومؤسسة الإمام علي (Imam Ali Foundation)، ومؤسسة دار الإسلام في لندن (Dar al-Islam Foundation in Londo)، التي تأسست، على التوالي، في الأعوام 1989 و1994 و1993، وهي تمثل ثلاثة مرجعيات شيعية: أبو القاسم الخوئي (الراحل)، وعلي سيستاني (الراحل) محمد حسين فضل الله. وتختلف الأرقام والنسب المئوية للشيعة في بريطانيا، ولكن عادة ما تكون ضمن نطاق 10 في المائة من مجموع السكان المسلمين البريطانيين، أي حوالى 200- 500 ألف فرد[6].
فيما كشف مرصد الأزهر عن وجود سبعين مركزاً شيعياً في بريطانيا، أغلبها في لندن، مؤكداً أن عدد المسلمين في بريطانيا يقدر بنحو 2.8 مليون مسلم، وتبلغ نسبة الشيعة 5 % منهم، والباقي من المسلمين السنة، وأكد المرصد أن المسلمين يشكلون نسبة 4.5 % من نسبة السكان في المملكة المتحدة، وفقاً لإحصاء أجري في عام 2011، وتمثل الجنسية الباكستانية والبنغالية أكبر نسبة من المسلمين في بريطانيا.كما أن الشيعة في بريطانيا ينقسمون إما للطائفة الإثنى عشرية أو الزيدية أو الإسماعيلية، ويبلغ عددهم نحو 400 ألف فرد قادمين من إيران أو العراق أو باكستان أو تركيا وأماكن أخرى. ومن أبرز المراكز الإسلامية التابعة للطائفة الشيعية هو المركز الإسلامي الحسيني باستانمور وهو من أكبر المساجد الشيعية ببريطانيا، كما أن المراكز والحسينيات الشيعية في بريطانيا في تزايد، ومنها: مؤسسة دار الإسلام في مانشستر، وتنشط في إقامة صلاة الجمعة وتنظيم برامج شبابية كل يوم سبت، وإحياء ذكرى أهل البيت، وإحياء ليالي القدر والإفطار الرمضاني[7].
ومن بين المراكز الشيعية، مركز أهل البيت الثقافي، والمجلس العالمي للشؤون الإمامية ومؤسسة آل البيت لإحياء التراث وتركز على إقامة دورات فقهية للنساء، ومدرسة آل البيت الدينية للبنات، ومركز الإمام الخوئي الإسلامي في سوانزي في لندن، وحسينية الرسول الأعظم، ومؤسسة المسلم في براد فورد، ودائرة المعارف الحسينية ونشاطها تدوين موسوعة كبيرة تضم خمسمائة مجلد عن الإمام الحسين. وأضاف المرصد أنه من بين المراكز الشيعية التي تتركز في لندن، معهد التعليم الإسلامي في لندن، ويركز على الأكاديميين، وإقامة دورات تعليمية، والمركز الحيدري الإسلامي، والمركز الإسلامي، والجمعية العالمية الإسلامية، ومؤسسة رفاه العراقيين،وجماعة التعليم الإسلامي (دار التبليغ)[8].
وتشهد لندن سنوياً مسيرة حسينية في اليوم العاشر من المحرم وتنطلق في “الهايد بارك” وتنتهي بالمجمع الإسلامي، وترفع خلالها الأعلام والرايات السود، إضافة إلى المراسيم الأخرى في الحسينيات والمراكز الحديثة.ويبدو أن لندن قد استفادت من النجاح المحدود لإيران في تقديم نفسها كمركز للشيعة، والاستفادة من الأوضاع الطائفية الشائكة في العراق ولبنان، فقد وجد العديد من اللاجئين السياسيين، معظمهم من العراق، طريقهم إلى العاصمة البريطانية، وبطبيعة الحال، دورهم كمركز قوة سابقة في تعزيز النفوذ الشيعي والإيراني[9].
وتضطلع مؤسسة الإمام الخوئي بدور هام في نشر التشيع في أوروبا، ولها فروع في لندن ونيويورك، وتقوم بدور هام من خلال التعليم، وترجمة النصوص الدينية إلى اللغة الإنجليزية، وبناء المساجد، وإسداء المشورة للسلطات الغربية عن الإسلام الشيعي. غير أنه في الوقت نفسه، فإن آليات التجنيد نفسها التي جرت في العالمين العربي والإسلامي قد وجدت طريقها إلى أوروبا، من أجل تجنيد العناصر المؤمنة بطموحاتها السياسية، ومن خلال الدعاية عبر محطات التلفزيون الفضائية أو مواقع الإنترنت والمنتديات[10].
وهناك العديد من النماذج التي تكشف عن التسلل الإيراني في أوروبا، ففي فرنسا، لعب الإيراني مهدي روحاني، المولود في مدينة قم، دوراً هاماً في نشر التشيع وبصفته كان رئيساً للطائفة الشيعية، والتي ظل مقرها في فرنسا لمدة عشرين عاماً، وكان لروحاني دور هام في تأسيس المركز الإسلامي الإيراني في باريس الذي أصبح أداة لنشر أيديولوجية الجمهورية الإسلامية، فيما لعبت سفارة إيران، دوراً هاماً من خلال نشر عدد من الأنشطة تجاه السكان الشيعة والسنة في فرنسا[11]. ويلاحظ أيضاً وجود طائفة الشيعة الاسماعيلية، من خلال المجلس الأعلى للاسماعيليين في أوروبا (Conseil Suprême des Ismaïliens en Europe)، والجمعية الإسماعيلية (l’association ismaïlienne)، وهناك فرع لمعهد الدراسات الإسماعيلية، ومقره في لندن، وتم إنشاء هذا المركز في باريس في أكتوبر عام 1953، تحت اسم “المركز الثقافي الإسماعيلي (centre culturel ismaïlien”)[12].
ويمكن أن نلاحظ التغلغل الإيراني في المجتمع الألماني عبر مؤسسات التشيع في ألمانيا، من خلال مراكز التشيع التي بنيت لهذا الغرض، مركز هامبورغ الإسلامي ((IZH)) the Islamisches Zentrum Hamburg) كمركز للشيعة الألمانية. ويقع بالقرب من مسجد الإمام `علي في هامبورغ، الذي أنشىء في عام 1962، وفي الواقع، فإن مركز هامبورغ الإسلامي ((IZH)) ينشر التعاليم الشيعية الإيرانية، باعتباره واحدا من المراكز الأكثر نشاطاً للدعاية الإيرانية في أوروبا، ويهدف إلى كسب النفوذ بين المجتمعات الشيعية والترويج للسياسة الإيرانية عبر الشيعة الأوربيين[13].كما أن مركز هامبورغ الإسلامي يمثل نقطة اتصال الشيعة في ألمانيا، وخاصة في برلين وفرانكفورت وماين وميونيخ، وقد أشار التقرير السنوي لعام 2004 الصادر عن وزارة الداخلية في ألمانيا أن هذا المركز هو مركز الدعاية الأكثر نشاطاً في أوروبا، وتوفير نقطة اتصال مع آية الله خامنئي، والعمل على نشر ما يسمى بالنظام الإسلامي الإيراني على مستوى العالم (…). كما أن المركز يعتبر أيضاً نقطة اتصال للشيعة في بلدان أخرى، لاسيما تركيا ولبنان”. ووفقا للتقرير نفسه، فإن الدعاية الشيعية تستخدم الإنترنت بشكل فعال، وعلى سبيل المثال موقع مسلم-ماركت (www.muslim-markt.de) الذي يديره الدكتور يافوز أوزوغوز، وهو شيعي من أصل تركي[14].
وتطرح حالة التشيع في هولندا نموذجاً آخر للتسلسل الإيراني عبر مراكز التشيع، فقد ارتبط ظهور الشيعة (الأرقام الرسمية تؤكد انهم ضمن نطاق 70 إلى 125 ألف شيعي) بالعمالة وتيارات الهجرة في الستينات من القرن العشرين، وكان معظمهم من المهاجرين الباكستانيين أو الهنود الذين يبحثون عن عمل أو ملجأ سياسي. وفي عام 1976، أنشئت الدار الجعفرية (Idara-e Jafria). ثم أنشئت أول حسينية هولندية في أمستردام في عام 1976، ويعتقد أن النمو الرئيسي للمجتمع الشيعي قد بدأ في وقت مبكر من عام 1990 مع تدفق اللاجئين العراقيين، وتشمل تيارات الهجرة الشيعية إلى هولندا المجموعات الرئيسية الأخرى من الشيعة الإيرانيين، والهنود والباكستانيين والأفغان.. وقد أصدر الشيعة في هولندا العديد من المطبوعات والمواقع الإلكترونية لنشر التشيع في المجتمع الهولندي [15].
وفي السويد، جاء الشباب في الستينيات من القرن العشرين من تركيا والبلقان وباكستان كجزء من برامج توظيف القوى العاملة، وفي منتصف السبعينات، انضمت إليهم أسرهم من خلال برامج لم شمل الأسر، وتوسيع المجتمعات المسلمة باللغة السويدية. وأعقبت هذه المجموعة المبكرة من المهاجرين من القوى العاملة تحركات اللاجئين من البلدان الإسلامية في الثمانينيات والتسعينات من ذات القرن، على غرار البلدان الأوروبية الأخرى. وبعد الثورة الإيرانية عام 1979 والحرب بين إيران والعراق، زاد تدفق اللاجئين من كلا البلدين، ولا سيما الأجزاء الكردية إلى السويد في الثمانينيات، في حين أن الصراعات العرقية جلبت تيارات الهجرة من البلقان إلى السويد، ووصلت مجموعات أخرى من الصوماليين والعراقيين واللاجئين اللبنانيين[16].
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء (2013) هناك حوالي 65 ألف إيراني في السويد. بالإضافة إلى المهاجرين من جنوب آسيا ويتحدثون الهندية، والباكستانية، وقد بنوا أول مسجد شيعي في ترولهاتان في عام 1985. والكثير من المسلمين الشيعة في جنوب آسيا ينتمون إلى ما يسمى “الخوجة” khoja، وهي الجماعة التي نشأت في الأجزاء الشمالية من الهند. وهي جزء من الشيعة الاثني عشرية. وكان الخوجة هم المجموعة الأولى من الشيعة الذين جاءوا إلى السويد، وجاءوا من أوغندا، حيث قام الرئيس الأوغندي عيدي أمين (1925-2003) بطرد سكان جنوب آسيا، أما الشيعة من السويديين. فهم أقلية صغيرة جدا من الناس - انصهروا في الشيعة من خلال الزواج، وهناك أيضاً الشيعة المسلمون من الأكراد الذين قدموا إلى السويد في ثمانينيات القرن العشرين، وهم أقلية صغيرة (5-10 في المائة) من الأكراد من المسلمين الشيعة[17].. ويميل الشيعة في السويد إلى العيش في مناطق المدينة الرئيسية مثل ستوكهولم (جنوب وشمال غرب المدينة)، غوتيبورغ (الشمال والشرق والجنوب من المدينة) ومالمو (وسط المدينة، جنوب وشرق المدينة) [18].
أما في النرويج، فإن المسلمين وهم أقلية دينية صغيرة يقدرون بحوالي 220 ألف مسلم، وتمثل 4.5 % من إجمالي عدد سكان البلاد. ولايمثل الشيعة سوى حوالي 15 في المائة من هذه الأقلية، أي ما يقرب من 33 ألف شخص، وتجدر الإشارة إلى أنه خلال العقود الماضية أصبح اللاجئون العراقيون وذريتهم ثالث أكثر المجموعات عدداً في النرويج، وعلاوة على أن نسبة كبيرة من هؤلاء المهاجرين هم من الشيعة فهم من مدن مثل بغداد وكربلاء والبصرة، الذين هاجروا هرباً من سياسة صدام حسين، وهناك شيعة آخرون من باكستان وأفغانستان وتركيا. واللافت أن المساجد قد أقيمت في النرويج على طول المبادئ العقائدية، حيث أنشئت رسميا ثلاثة مساجد في النرويج للسنة والشيعة، وفي عام 2013، كان هناك أربعون مسجداً في أوسلو، منهم تسعة مساجد للشيعة ومسجد واحد للأحمدية، وتجدر الإشارة إلى أن هذه المساجد لديها الطابع العرقي القائم على الخلفية العرقية بين النرويجيين السنة والشيعة[19].
بينما في بلجيكا، يتضح التغلغل الإيراني بصورة أوضح عبر مسجد الرضا، أو مركز رضا الثقافي والإسلامي، الذي تأسس في عام 1994، فإلى جانب وظيفته الطقسية فهو ينظم المؤتمرات، ويقدم الدورات الدينية وهو مركز اجتماعي للمجتمع الشيعي، ومنذ أوائل الثمانينات، كان المركز يركز على خطاب القومية الدينية الخمينية في إطار التمدد الشيعي عبر الدعاية الخمينية[20]. وقد أظهرت مقابلات مع السنة الذين يعيشون في المناطق الإسلامية في بروكسل الحملة الإيرانية لتحويل السنة إلى الشيعة. وقد عبرت صحيفة الصباح المغربية عن قلقها العميق وتحدثت عن تشيع المغاربة في أوروبا “، حيث بلغ عدد الشيعة المغاربة عشرين ألفا، وبلغ العدد الإجمالي للشيعة في بلجيكا 30 ألفا، معظمهم يعيشون في بروكسل، ويرجع السبب وراء هذا التحويل النشط إلى دعوات التشيع المؤيدة من الثورة الإسلامية في إيران، من خلال الجمعيات، والمكتبات والمساجد، وينظر السنة المغاربة إلى هذا التحول الهائل كخطر يزعزع استقرار المجتمع المحلي، بل هو أيضا ينظر إليها على أنها تسلل لتقليل دور المغرب في بلجيكا وزيادة تأثير إيران في أوروبا الغربية[21].
والأهم في هذا السياق أن نؤكد أن حملات التشيع في بلجيكا وهولندا لم تكن بمعزل عن التشيع في العالم العربي، لاسيما منطقة المغرب العربي، فقد عرفت مدينة طنجة الكثير من الشيعة الذين تأثروا بإقامتهم في بلجيكا وهولندا، فالكثير من الشيعة تلقوا المذهب الشيعي في أوروبا، حيث انخرطوا في جمعيات شيعية هناك. ويؤكد الكثير من الباحثين أن مصدر التشيع يعود إلى أوروبا أساساً وتحديداً بلجيكا، حيث يعيش آلاف المغاربة منذ سنوات مع وجود الحرية المطلقة للحركة الشيعية التي استثمرت بدهاء، وقد لوحظ وجود تشجيع للإيرانيين والإيرانيات عبر مساعدات متنوعة، من اقتناء للسكن، إلى توفير منح ومساعدات منتظمة للتزوج من أبناء المهاجرين في أوروبا، سواء كان ذلك زواجاً دائماً أو زواج متعة، وقد كان ذلك سبب تشجيع الكثير من أبناء المغرب، خاصة المنحدرين من المنطقة الشمالية، ومما يدلل على النشاط الشيعي في أوساط المغاربة المهاجرين، تحول أربعة مساجد كبيرة للجالية المغربية في العاصمة البلجيكية بروكسل للمذهب الشيعي، وتعد العاصمة بروكسل هي المدينة الأولى من حيث النشاط الدعوي الشيعي، وهناك العديد من المراكز مثل مكتبة بيروت، جمعية الهادي المغربية، المركز الثقافي الشيعي- أهل البيت، مسجد الرحمن، مؤسسة ثاني الثقلين، حسينية الرضا، حسينية الهادي، مسجد خاص بالأتراك الشيعة. وهذا ساهم في نشأة أجيال صاعدة تربت على المذهب الشيعي الذي رسخ لديها كجزء من هويتهم وشخصيتهم الأصلية بعد عودتهم إلى أرض الوطن[22].
وفي أسبانيا، أثار الانتشار المتزايد للإسلام في إسبانيا اهتمام التيارات الشيعية لنشر هذا المذهب في المملكة الأيبيرية، حيث أقدمت جمعية “أهل البيت” على شراء مدرسة قديمة بمدريد، قصد تحويلها إلى مركز ثقافي كبير، سعيا منها إلى “نشر التشيّع بإسبانيا”. ويوجد المقر العام لجمعية أهل البيت الشيعية بالعراق، ووفقا لبيانات السلطات العراقية تعمل الجمعية بتمويل من “آية الله السيستاني”، الذي يمثل سلطة دينية عراقية مهمة بالنسبة للشيعة. وأفادت مصالح الاستخبارات الإسبانية أنّ النظام الإيراني هو من أمدّ الجمعية بالأموال الطائلة التي تطلّبها شراء مقر جديد لها بالعاصمة الإسبانية مدريد، حيث تسعى إيران إلى نشر المذهب الشيعي على حساب المذهب السني في إسبانيا، وقد حضر السّفير الإيراني بإسبانيا حفل افتتاح المقر، وتقدّم الجمعية نفسها بإسبانيا على أنها جمعية تسعى إلى ربط الحوار بين الأديان مع ممثلي الكنيسة المقر، ومن الواضح أن الجمعية تمتلك كل المقومات التي تخولها لتحقيق أهدافها، حيث تبلغ مساحة المركز الثقافي الكائن بشارع “فلورينسيو سانث” في العاصمة الاسبانية مدريد، 1.400 متر مربع، ويتوفّر على أقسام ومكتبة وقاعة للندوات، وعدة غرف ومطبخ ومكاتب، وتسعى جمعية “أهل البيت” الشيعية لأن تصبح مركزا لتكوين الشّيعة، باعتبار أن هذا هو النشاط الأساسي الذي تزاوله في البلدان الغربية الأخرى التي فتحت بها مقرّات لها، وفي المستقبل، ستقوم الجمعية بترجمة منشورات رجال الدّين الشيعة البارزين، كما ستعمل على تكوين أتباع جدد للمذهب الشيعي، وستقيم الصلوات داخل منشآتها الخاصة[23].
ويتضح مما سبق، أن التشيع في أوروبا أرتبط بأهداف السياسة الإيرانية في العالم العربي، فنشطت السفارة الإيرانية في العواصم الأوروبية بقوة في تشييع المهاجرين، منذ أن أقدمت على تقديم مساعدات مالية شهرية منتظمة للشباب الوافد، وتشجيعهم على زواج المتعة الذي يمكنهم من الحصول على أوراق الإقامة، كذلك عملت على ربط جزء من العرب بشخصيات دين تعمل بمرجعية الولي الفقيه في أوروبا، ومولت أنشطة وزيارات لإيران لهولاء الشباب، وهو ما مكن الإيرانيين من التغلغل في أوروبا والعالم العربي عبر الجاليات العربية. ومن ثم فقد غدت أوروبا قاعدة خلفية للغزو الشيعي الطائفي للعالم العربي، وركزت على التغلغل من خلال الجالية العربية في بلجيكا وكندا وهولندا وأسبانيا، عبر عمل شبكي يلقى دعما سياسياً ومالياً من طهران وشيعة لبنان خاصة.
مركز المزماة للدراسات والبحوث
٢ أغسطس ٢٠١٧
المراجع:
[1] Abdessamad Belhaj - Bianka Speidl: Fitna Rising: The Sunnī-ShīʻĪ Clashes in Western Europe, Defence Review, Volume 144, Special Issue 2016/2, The Central Journal of The Hungarian Defence Forces,(Budapest, Hungarian: The Hungarian Academy of Sciences,2016),p.62
[2] Ibid,p.63
[3] Jelle Puelings: Fearing A ‘Shiite Octopus’ Sunni - Shi`A Relations and The Implications For Belgium and Europe”,Egmont Paper, (Brussels, Belgium: Egmont - The Royal Institute for International Relations, January 2010),p.36
[4] Ibid,p.29
[5] Van den Bos M.:”European Shiism? Counterpoints from Shiites’ organization in Britain and the Netherlands”,Ethnicities,(California,USA: SAGE Publication, 12,2012). p.4
[6] Ibid,p.4
[7] الوطن:” مرصد الأزهر يحذر من وجود 70 مركزا شيعيا في بريطانيا “،18/1/2016
http://www.elwatannews.com/news/details/905350
[8] نفس المرجع السابق
[9] Jelle Puelings,op.cit,p.37
[10] Ideam
[11] Jean-François Legrain:Aspects de La Présence Musulmane en France,(Paris:Service National de La Pastorale des Migrants,Cahiers de La Pastorale des Migrants 27,4etrimestre 1986),p.21
[12]Ibid,p.22
[13] Jelle Puelings,op.cit,p38
[14] Abdessamad Belhaj - Bianka Speidl,op.cit,p.585
[15] Van den Bos M.,op.cit, p.5
[16] Katharina Kehl: “Minority Participation in the Public Sphere: A Critical Analysis of Claim-Making on Muslim Rights and Islam in Swedish News Media,M.A. thesis,(Lund,Sweden: Lund University,Department of Sociology,Spring 2014),p.10
[17]Göran Larsson och David Thurfjell: Shiamuslimer i Sverige en kortfattad översikt,(Stockholm: Nämnden för statligt stöd till trossamfund,, 2013),p.20
[18] Jonas Otterbeck:The Legal Status of Islamic Minorities in Sweden,Journal of Conflict and Violence Research,(Bielefeld, Germany: Bielefeld University, Institut for Interdisciplinary Research on Conflict and Violence (IKG), Vol. 5, 2/2003), p.36
[19] Marius Linge:”Sunnite-Shiite Polemics in Norway”, FLEKS-Scandinavian Journal of Intercultural Theory and Practice,(Oslo,Norway:Oslo and Akershus University College of Applied Sciences,Vol. 3, No 1,2016),p.8
[20] Abdessamad Belhaj - Bianka Speidl,op.cit,,p.56
[21] Ideam
[22] Jelle Puelings, op.cit,pp28-30
[23] هسبريس: صحف إسبانية: إيران تسعى لنشر التّشيّع وسَـط المملكة الإيبيريـة،
http://www.hespress.com/international/259991.html